نيشان الآن
عبدالرزاق القرقوري باحث في التاريخ..
في الساعات الأولى من منتصف ليلة هذا اليوم، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها استهدفت بثلاث ضربات دقيقة منشآت نووية إيرانية رئيسية في نطنز وفوردو وأصفهان. الإعلام الأمريكي والإسرائيلي احتفى بما سماه “انتصارًا للسلام”، وخرج الرئيس دونالد ترامب بتصريحات رنانة يزف فيها البشرى للعالم: “لقد دمرنا برنامج إيران النووي، والسلام عاد إلى العالم”. لكن السؤال الحقيقي: متى كان السلام يُولد من فوهات البنادق؟ وهل حقًا انتهت الحرب أم أنها بدأت للتو؟
ما لم تدركه آلة الدعاية الأمريكية أن تصريحاتها كانت تحمل في طياتها اعترافًا ضمنيًا بالخوف والارتباك. أن تتحدث عن السلام فورًا بعد قصف مواقع نووية، فإنك في الواقع تقول للخصم: “لا نريد ردا، نرجو أن لا تردوا”. لكن الرد الإيراني جاء صادمًا وهادئًا في الآن ذاته: “لقد تم تحويل عمليات التخصيب إلى مواقع أخرى، والمفاعلات المستهدفة لم تعد حيوية.”
هذا الاعتراف الإيراني، إن صح، يعني ببساطة أن الضربة الأمريكية لم تحقق سوى دعاية إعلامية فارغة، في مقابل استفزاز استراتيجي قد يقلب المنطقة رأسًا على عقب. والواقع أن هذا السيناريو ليس جديدًا في السياسة الأمريكية، بل هو جزء من “صناعة الخوف” التي تمتهنها واشنطن لتبرير وجودها العسكري في العالم وابتزاز حلفائها، تمامًا كما فعلت في أفغانستان والعراق وسوريا.
أمريكا والهزائم الكبرى: من فيتنام إلى أفغانستان
الضربات الاستباقية، والعمليات الدقيقة، والتحالفات الدولية، كلها عناوين براقة تخفي خلفها هزائم مريرة. لنتذكر:
في فيتنام (1975)، انسحبت أمريكا بعد عقدين من الحرب، تاركةً وراءها أكثر من 58 ألف جندي قتيل وصورة مروعة لطائراتها وهي تُقل آخر من تبقى من السفارة الأمريكية في سايغون.
في العراق (2003-2011)، دخلت أمريكا بدعوى “أسلحة الدمار الشامل”، لكنها خرجت دون أن تجد شيئًا سوى مقاومة شرسة أحرجت جيوشها وولّدت جماعات عنف أكثر تطرفًا.
في أفغانستان (2001-2021)، وبعد أطول حرب في تاريخها، عادت طالبان إلى الحكم خلال أيام، في مشهد اعتبره العالم “الانسحاب المهين” بامتياز.
كل هذه الوقائع تؤكد أن القوة العسكرية الأمريكية عاجزة عن حسم الصراعات المعقدة ذات الأبعاد العقائدية والجغرافية العميقة. فكلما حاولت أمريكا أن تفرض إرادتها بالنار والحديد، ووجهت بشعوب أكثر تصميمًا، تعتبر الموت شهادة والرد حتمية لا مفر منها.
إيران… هل تمتلك القنبلة النووية؟
الشكوك التي تحيط بالبرنامج النووي الإيراني كبيرة، لكن حتى الآن لم يُثبت بالدليل القاطع امتلاك إيران لسلاح نووي فعلي. ومع ذلك، فإن سلوكها في التعامل مع التصعيد الأخير يُوحي بامتلاكها أوراق ردع إستراتيجية قوية، قد لا تكون قنبلة نووية، لكنها كافية لخلق توازن رعب مع إسرائيل وأمريكا.
والقصف الإيراني غير المسبوق الذي طال العمق الإسرائيلي مؤخرًا، وما خلفه من دمار وارتباك أمني، يكشف أن إيران لا تراهن فقط على “برنامج سري”، بل تملك منظومات صاروخية متطورة وقدرة على شن ضربات موجعة.
مناورات الصمت: الصين، روسيا، وكوريا الشمالية
ما يجعل المشهد أكثر تعقيدًا هو صمت القوى الكبرى. فالصين، التي تواجه أمريكا في بحر الصين الجنوبي، لم تُصدر موقفًا حادًا بعد، لكنها في الغالب لن تسمح بحرب شاملة قد تهدد مصالحها في الشرق الأوسط.
أما روسيا، المثقلة بحربها في أوكرانيا، فإنها قد تستثمر التصعيد الأمريكي الإيراني لإضعاف واشنطن دوليًا، وقد تقدم دعمًا غير مباشر لطهران.
وكوريا الشمالية، التي تملك السلاح النووي رسميًا، تعتبر إيران شريكتها في الصمود ضد ما تسميه “الإمبريالية الغربية”، وقد تعمد إلى التصعيد الرمزي أو إجراء تجربة صاروخية في رد غير مباشر.
باكستان… صامتة لكنها حذرة
رغم أن باكستان لم تُبدِ موقفًا مباشرًا، إلا أن امتلاكها سلاحًا نوويًا، وعلاقتها الجغرافية والعقائدية مع إيران، تجعل من موقفها عنصرًا حساسًا. وهي تعرف أن التصعيد الكبير قد يفتح شهية الهند في الجنوب، ما يعني دخول المنطقة كلها في فوضى نووية محتملة.
حزب الله… وقرار اللحظة المناسبة
في لبنان، يُنظر إلى حزب الله كجزء لا يتجزأ من محور المقاومة. ورغم أن الحزب لم يُعلن تحركًا مباشرًا، إلا أن استهداف إيران قد يُفجر جبهة الجنوب اللبناني، خصوصًا إذا تبين أن إسرائيل شاركت فعليًا في قصف المواقع الإيرانية. وحينها، سيكون الرد متعدي الجغرافيا ومفتوحًا على أكثر من سيناريو.
منظمة الأمم المتحدة… شرعية المنتصرين فقط
من المفارقات التاريخية أن منظمة الأمم المتحدة، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية بحجة حماية السلم العالمي، تحولت اليوم إلى غطاء شرعي لتدخلات المنتصرين. فالأمم المتحدة لا تحمي الفقراء ولا تقف مع الشعوب المظلومة، بل تخدم أجندات القوى الكبرى عبر “فيتوهات” مجلس الأمن. وهي لم تحاسب أمريكا أبدًا على جرائمها في العراق، ولا إسرائيل على اعتداءاتها المستمرة على غزة ولبنان وسوريا.
المسلمون وأسطورة “الدمار الشامل”
ما لا تفهمه أمريكا أن المجتمعات المؤمنة، وخاصة المسلمة، لا تخشى الموت. فإيمانها بقوة الله وحده يجعل من تهديدات الفناء والدمار مجرد “هرطقات” إعلامية لا تأثير لها على عقيدة القتال والصمود. وكما قالها المفكر الجزائري مالك بن نبي: “الاستعمار لا يُهزم بالسلاح فقط، بل بعقيدة الحياة”.
من يعتقد أن إيران ستستسلم بعد ضرب مفاعلاتها النووية، لم يفهم طبيعة الشرق، ولا ثقافة التضحية فيه. على العكس، هذه الضربة قد تكون الفرصة التي تنتظرها طهران منذ سنوات لتفعيل شبكة ردعها بالكامل. فالضربة التي لا تقتل، تقوّي.
وأمريكا، وهي تبني انتصاراتها في الإعلام، لا تعلم أن صمت خصومها قد يخفي عاصفة تاريخية تعيد تشكيل وجه الشرق الأوسط… وربما العالم.
نيشان الآن